ريبورتاج

ألوان وروائح وأصوات.. رحلة في عالم السوق الشعبي بحي الزيتون

شيماء تمزيلت ( صحفية متدربة)

على إيقاع أصوات الباعة المتجولين، وألوان المنتجات المتنوعة، ينبض السوق الأسبوعي في قلب حي الزيتون “بين القشالي” بتراب مقاطعة جليز. هنا، يتجمع الناس كل أسبوع لشراء احتياجاتهم، وتبادل الأخبار، ومواصلة تقليد يعود إلى عقود طويلة، حيث لا يزال السوق محطة اجتماعية وثقافية بامتياز.

في قلب الحي، ينبض السوق الشعبي الأسبوعي كروح تجمع بين مختلف شرائح المجتمع، حاملا معه عبق التراث ودفء العلاقات الإنسانية. يوم السوق ليس مجرد موعد للتسوق، بل هو مناسبة اجتماعية، اقتصادية، وثقافية تعكس حياة سكان الحي بمختلف تفاصيلها. يعتبر هذا اليوم مهرجانا مصغرا يجذب الناس من جميع الأعمار، حيث تتنوع البضائع وتتنوع الأجواء.

الفضاء و أجواء السوق 

مع شروق شمس يوم السوق، تبدأ عربات الباعة بالاصطفاف وأصواتهم بالتصاعد، معلنين عن منتجاتهم بأسلوب يمزج بين الإبداع والفكاهة. تنقسم مساحة السوق إلى مناطق تتنوع بين الخضروات، الفواكه، اللحوم، الملابس، والأواني المنزلية، مما يخلق لوحة نابضة بالألوان والحياة.

” البالة البالة البااااالة جديييييدة ” هذه أول الكلمات التي تقابلك أول ما تطأ أرجلك في السوق الأسبوعي ببين القشالي، وكأنك دخلت إلى عالم مختلف. كأنك تسمع لحنا من نوع اخر، الأصوات تتداخل مع بعضها أصوات تنبض بالحياة وتضيف إلى المكان سحرا لا يقاوم.

في مقدمة السوق الشعبي، يلفت انتباهك ركن خاص ببيع الملابس المستوردة القديمة، أو ما يسمى بـ”البال”. كان هذا الركن مليئا بالملابس المختلفة التي تحمل في طياتها قصصا من أماكن بعيدة وأزمنة مختلفة.

اقتربت من البائع، رجل مسن بوجه مريح وملامح تدل على الحكمة. كان يرتب الملابس بعناية، وكانت كل قطعة تبدو وكأنها تحمل في طياتها حكاية خاصة بها.

“أهلاً بكِ! هل تبحثين عن شيء مميز اليوم؟” سألني بلهجة ودودة.

نظرت إلى بعض الفساتين والقمصان المطرزة بشكل دقيق وقلت: “أحب أن أجد شيئا غير عادي، شيئا يحمل ذكريات خاصة.”

ابتسم البائع وقال: “كل قطعة هنا لها قصة، تأتي من أماكن بعيدة وأزمنة قديمة. انظري إلى هذا الفستان ، لقد جاء من باريس في ستينيات القرن الماضي. وكانت مالكته السابقة ترتديه في حفلات موسيقية فاخرة.”

كأنه يصنع قصصا من الخيال لترويج سلعته بشكل جميل، اشتريت بعض الملابس التي جذبتني بقصصها وتفاصيلها الفريدة. كان هناك معطف قديم يبدو أنه قد عاصر الكثير من الشتاءات، وقميص مطرز بدقة يحمل تصاميم تقليدية من ثقافات بعيدة ، شعرت بأنني أحمل معي قطعة من التاريخ والثقافات المختلفة. كان هناك العديد من البسطات المليئة بالملابس لكني إكتفيت بتلك القطع التي أخدتها فقد كانت مختلفة.

ثم تسمع من بعيد أصوات الباعة وهم ينادون على منتجاتهم بأعلى أصواتهم، ينافسون بعضهم البعض في جذب انتباه الزبائن  “ملابس مستعملة ، أحذية مستعملة ” “طماطم طازجة ، طماطم رخيصة ” ينادي كل بائع بصوت عال، بينما بجواره بائع آخر يصطفون الزبائن أمامه، إنه بائع التوابل الذي تفوح من أكياسه رائحة الزعتر والكمون والكركم.  يهتف: “تفضّلوا تفضّلوا أفضل أنواع التوابل بأسعار لا تنافس”.

وفي إحدى الزوايا، تجد بائع الخضروات يعرض منتجات طازجة من مزارعه القريبة، بينما في زاوية أخرى، تزين أكوام الفواكه المشرقة عربات بائعيها.

السوق ملتقى اجتماعي  

السوق ليس مكانا للبيع والشراء فحسب، فهو ملتقى للسكان لتبادل الأخبار والنقاشات. تجد الأمهات يتبادلن وصفات الطهي، والرجال يتحدثون عن أحوال الطقس والزراعة، بينما يلعب الأطفال بالقرب من أمهاتهم.

“هذا السوق ليس مجرد تجارة، إنه مكان يجمعنا”، كلمات حررتها حنجرة العم حسن، أحد الباعة القدامى، الذي يؤكد أن السوق الأسبوعي يعزز الروابط الاجتماعية بين أهالي الحي.

التنوع و التقاليد

ما يميز السوق الشعبي هو حفاظه على الطابع التقليدي، حيث يمكن للزائر أن يلمس أصالة الحياة البسيطة والحضرية في آن واحد. و الحرف اليدوية تجد لها مكانا هنا أيضا .

في إحدى الزوايا، تجلس السيدة فاطمة، وهي تعرض أقمشة تقليدية مصبوغة بالألوان الطبيعية. تقول بفخر: “هذا عمل يدي، وأحرص على أن أحافظ على هذه الحرفة التي ورثتها عن والدتي”.

مع اقتراب غروب الشمس، يبدأ السوق في التفكك، وتغادر العربات واحدة تلو الأخرى، تاركة وراءها ذكريات يوم حافل بالأنشطة. يعود السكان إلى منازلهم حاملين مشترياتهم، لكن الأهم أنهم يعودون محملين بروح الألفة التي لا يمكن شراؤها.

السوق الأسبوعي ليس مجرد فضاء اقتصادي، بل هو مرآة للحياة البسيطة التي يعيشها سكان الحي، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، والتجارة بالإنسانية، والتقاليد بالمستقبل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى