رأي

البارصا قبل غـ.ـزة

برعلا زكريا …

في غـ.ـزة، حيث السماء تمطر حديدا والأرض مفروشة بالدمار والأشلاء، تتشكل ملامح الصباح برائحة البارود والدم. هناك، حيث المـ.ـوت يتربص في كل زاوية، والنجاة معجزة في كل لحظة، تتجلى مفارقات الإنسانية بأبشع صورها.

في ذلك السجن المفتوح على الجحيم، يصبح البحث عن رغيف خبز مغامرة قد تكتب نهايتها بصاروخ عابر، ويتحول الظفر بقطرة ماء نظيفة إلى حلم يراود الصغار والكبار. هناك، حيث أصبحت المقابر أكثر ازدحاما من الأحياء، وصارت أصوات النحيب سيمفونية الحياة اليومية.

بينما تدك آلة الحرب أزقة غـ.ـزة بلا هوادة، وتتناثر أحلام أهلها كقطع الزجاج المهشم، تنبعث في أنحاء أخرى من العالم آهات من نوع آخر، أشد غرابة وأكثر سخرية.

هنا، في عالمنا “المتحضر”، تسكب الدموع بحرقة لأن فريقا رياضيا خسر مباراة، وكأن خروج برشلونة من دوري الأبطال يوازي فقدان عائلة بأكملها تحت أنقاض منزل مقصوف!

وهناك من يغرق في دوامة الاكتئاب لأن علاقة عاطفية فترت، فيتوارى خلف جدران العزلة، وكأن القدر قد أطبق عليه بمخالبه، متناسيا أن ثمة أطفالا في غـ.ـزة يتوسدون أحضان الموت كل ليلة، غير متيقنين من شروق شمس الغد عليهم.

أليس هذا ضربا من العبث السريالي الذي يستعصي على التفسير؟ أن نتنافس في اقتناء آخر صيحات الهواتف الذكية، بينما يتنافس أهل غـ.ـزة على الظفر بكيس طحين متعفن أو علبة دواء منتهية الصلاحية!

في غـ.ـزة، تتجلى المأساة بكل تفاصيلها الموجعة. حصار محكم يخنق الحياة، ومستشفيات تحولت إلى مسالخ بشرية، وأطفال تتراقص عيونهم الذابلة بحثا عن كسرة خبز. حتى قوافل المساعدات الإنسانية لم تعد تصل إلى هناك، ولم تعد تترقبها أيدي المحتاجين، وكأن القدر يسخر من محاولات تخفيف المعاناة!

وفي الجانب الآخر من هذا الكوكب المسكون بالتناقضات، نشهد مشاهد من المسرح العبثي.

كيف نبرر لأنفسنا انشغالنا بتفاهات الحياة، بينما يصارع إخوة لنا في الإنسانية مع الموت كل لحظة؟ كيف نمنح أنفسنا الحق في التذمر من زحمة المرور، ونحن نشاهد صورا لأطفال يعبرون طرقات غـ.ـزة وسط الركام والجثث المتناثرة؟

لكن الغريب حقا، والذي يثير الدهشة والإعجاب في آن، هو أن أهل غـ.ـزة، رغم كل ما مروا به من أهوال تكفي لإفقاد البشرية جمعاء صوابها، لا يزالون يحتفظون بعقولهم وإنسانيتهم! ربما فقدوا منازلهم وأحبابهم وأحلامهم، لكنهم لم يفقدوا الأمل والإيمان والقدرة على الصمود. إنهم يقفون شامخين وسط الخراب، يواجهون الموت بابتسامة، ويستقبلون كل يوم جديد بعزيمة تجعلنا نشعر بالخجل من ضعفنا وتفاهة همومنا.

إن ما يعيشه أهل غـ.ـزة ليس مجرد أزمة إنسانية عابرة، بل هو محك حقيقي لضمائرنا، واختبار قاس لإنسانيتنا.

إنه صفعة مدوية توقظنا من سباتنا العميق، وتذكرنا بأن الحياة أقصر وأهش مما نتصور، وأن أولوياتنا بحاجة إلى إعادة ترتيب جذرية.

ما أتفه أوهامنا وما أشد همومهم، وما أضعفنا وما أقواهم!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى