حوادث السير المغشوشة: ظاهرة سطو عابرة للقارات.

حوادث السير مصدر ربح؛
يصعب تقليص حوادث السير، لكثرة العوامل المتداخلة في وقوعها، كالبنية التحتية، الازدحام، سلوكيات السائقين ومشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية، السرعة والقيادة تحت تأثير الكحول، وحوادث تقنية متعلقة بالسيارات.
ماذا عن حادثة سير وهمية؟
حينما تصبح مصدر ربح مادي، انتظر وقوعها بكثرة، بل وصنع سيناريوهات تفاصيلها. ففي الوقت الذي لا يجد فيه المرء مالا كافيا لإصلاح عطب في سيارته، يلج إلى “التحايل” على القضاء. وقد يتسبب بشكل مقصود في حادثة سير، سواء بعلم الطرف الآخر أو بدون علمه. على أساس أنها تسببت فيما تسببت فيه، عطب وضرر تقني وجب تأمينه، من طرف شركة التأمين.
بجدية وابتسامة: “اعطيني سيارة مؤمّنة وعشرة آلاف درهم، أُعيد لك سيارتك وعشرين ألف درهم>>.
هكذا صرح شاب لموقع “موجز24” بمدينة سلا. نبرته والحالة هاته تُظهر أنه متيقن مما يقوله، وتدل على سهولة هذا الأمر، وانتشاره بشكل كبير.
سيناريوه وإخراج ملفات كاذبة
تواصلنا مع محامي يشتغل على ملفات حوادث السير بهيئة سطات، أكد ل”موجز24” : “صحيح أن هناك حوادث سير مزيفة، كانت منتشرة منذ مدة، تقلصت مع دخول عالم الرقمنة إلى المؤسسات والشركات، لكن عادت وظهرت بشكل آخر، وأصبح يتدخل فيها مجموعة من الأطراف”.
هنا في مدينة سلا، بحثنا عن شخص قريب من أحد أطراف حوادث السير الوهمية. التقينا بحميد (اسم مستعار) وهو شاب في منتصف العمر، يعمل وسيطا مساعدا لمحامي بهيئة الرباط-سلا، في قضايا تتعلق بحوادث السير.
أوضح حميد أن أطراف هذه العملية متعددة، محاميين، أطباء، ضحايا وشهود، رجال الأمن أو الدرك حسب المنطقة، وأن لكل من هذه الأطراف دوره الذي يقوم به، وفي غياب أحدهم، تصعب العملية.
يتحدث “حميد” عن تجربة في هذا النوع من الحوادث المغشوشة، مُحدثا “موجز24”: “يأتي رجال الأمن للمعاينة، يذهب مالك السيارة، أي طرف الحادثة المؤمَّن له، عند الطبيب، وإحضار شهادة طبية عن الأضرار الجسمانية، ومن تم الذهاب إلى مقر ولاية الأمن أو الدرك الملكي، من أجل تحرير محضر، بعدها يعمل المحامي على فتح الملف بالمحكمة، ويقوم بتتبعه ولأن غالبا ما تكون الشهادة الطبية كاذبة، يجب مشاركة الخبير المحلف كذلك لتأكيدها ورفع نسبة العجز”.
يتم تزوير الشواهد الطبية، وتتبع المسائل القانونية والادارية إلى غاية الحصول على التأمين، عبر خطوات إدارية تظهر أنها سليمة، بينما هي وهمية أو مغشوشة، أو مبالغ فيها.
التزييف والمبالغة
تقوم شركات التأمين بتغطية الأضرار المادية التي لحقت بالسيارة، أضرار الاصطدام، الحريق، انكسار الزجاج…الخ، والأضرار الجسدية التي تلحق بسائق السيارة وركابها أيضا، من خلال تسديد المصاريف الطبية ومصاريف الاستشفاء ورأسمال الوفاة أو الإعاقة.
هناك حوادث سير، حقيقية فعلا، حصلت في الواقع، لكنها شبه وهمية، هي التي نقصد ب”المبالغ فيها”، نظرا للتلاعب فيها رغم وقوعها، حيث يقوم رجل الأمن المعايِن والحالة هاته، بإرشاد صاحب الحادثة إلى المحامي، أو وسيط المحامي، هذا الأخير يبشّر صاحب الحادثة بإمكانية رفع قيمة التعويض، من خلال رفع نسبة العجز، ومن هنا تبدأ التلاعبات.
يؤكد “حميد”: ” قد يصل التعويض إلى 60 ألف درهم أحيانا، القانون حدد نسبة المحامي بين 10% و20%، لكن غالبا ما يأخذ 35%، لأن في هذه الحالة الحادثة تتجاوز القانون. أستفيد أنا باعتباري وسيطا، من 1000 إلى 1500 درهم، نصفها تذهب لرجل الأمن الذي قدم لي صاحب الحادثة المؤمَّن له، أو يأخذ حصتي إذا تواصل مع المحامي بشكل مباشر”.
وأضاف:” حادثة في كل أسبوع، أدنى ما يمكن أن يصنعه الاطراف من حوادث السير الوهمية”.
إذن، حادثة سير وهمية أو شبه وهمية واحدة في كل أسبوع، عددها سيكون ستون حادثة مزيفة خلال شهر واحد، وسبعمئة وعشرون حادثة وهمية أو شبه وهمية خلال عام. فهل يا ترى هذه نسبتها التقريبية؟.
عمليات ليست خفية وليست جلية
الجامعة المغربية لشركات التأمين وإعادة التأمين، في الشهور الأخيرة من سنة 2018؛ أكدت أنه من أصل كل 5 ملفات طلب تعويض عن حوادث السير يوجد ملف واحد مغشوش. وحسب إحصائيات حوادث السير، التي أصدرتها وزارة النقل واللوجيستيك، عن نفس السنة (2018)، بلغ عدد الحوادث 96.133، بالتالي إذا كان من بين كل خمس ملفات حوادث سير ملف واحد مغشوش أو مبالغ فيه، فإن عدد هذه الملفات بلغ أزيد من 19.200 حادثة مغشوشة أو مبالغ فيها خلال سنة واحدة.
هذا الموضوع، تطرق إليه “عبد اللطيف وهبي” وزير العدل، في البرلمان المغربي، وتفاعل مع مسألة افتعال حوادث السير، مستغربا لكون أن: “هناك معلومات عن أشخاص يتردد اسمهم في ملفات حوادث السير مرات عديدة، هناك شخص تردد اسمه اثنان وثلاثين مرة، وآخر خمسة عشر مرة وغيرهم>> وأضاف: “أخذنا مجموعة من التدابير التي من شأنها محاربة افتعال حوادث السير، وتسمح الرقمنة بمساعدة النيابة العامة من رصد الاسماء التي تتكرر في حوادث السير، والتحقيق في شأنها”.
يصعب على المصالح القضائية الكشف عن العملية ومفتعليها بسهولة، حيث يتم العمل عليها بتنسيق جماعي، وتمرير الوثائق بشكلٍ إداري سليم. وحل مثل هذه العمليات يحتاج إلى الدقة والوقت، من خلال تتبع الأطراف التي يُعاد اسمها في حوادث السير، خاصة الشاهدين أو الضحايا وكذلك الأطباء الذين يقدمون الشواهد الطبية الكاذبة.
وهناك فعلا مجموعة من القضايا المتعلقة بهذا الموضوع، التي طرقت أبواب المحاكم، في مجموعة من المدن بالمغرب، وتم توقيف أو اتهام أطباء بتزييف الشواهد الطبية، احد هذه الملفات مر في منتصف العام الجاري، حيث ان النيابة العامة بابتدائية سلا، قررت وضع طبيبين بمستشفى مولاي عبد الله بسلا رهن الاعتقال الاحتياطي وطبيب ثالث توبِع في حالة سراح، ووصل الحكم في بعض الملفات على مفتعلي حوادث السير ل 15 عام سجنا نافدا.
حول اقتصاد شركات التأمين
عبد الرحيم دبيش، المتصرف المدير العام لAllianz المغرب، تحدث عن تأثير الغش في ملفات حوادث السير على اقتصاد شركات التأمين خلال ندوة صحفية العام الماضي، واعتبر أن: “ظاهرة الغش في ملفات التأمين على حوادث السير تشكل جزء من منظومة قطاع التأمين في جميع بقاع العالم وليس فقط في المغرب، مشيرا إلى أن هذا الغش يتمركز خصوصا في جهات ومدن معينة”.
شركات التأمين التي يبلغ عددها في المغرب أربعة وعشرون، من خلال معطيات تتبعها موقع “موجز24” يتبين أنها استمرت في تحسين رأسمالها، وقد بلغ سنة 2022 قيمة 451 مليار درهم، بزيادة نسبتها 1,2 في المئة مقارنة بنهاية سنة 2021.
وفي مايو من هذه السنة، نشرت مقالة بجريدة “العمق المغربي“، تفيد أن “نشاط التأمين سجل أدنى معدل نمو خلال 2023 منذ عشر سنوات، باستثناء عام 2020.. ومع ذلك، لا يزال حجم الأعمال المُنجز، يعادل ضعف ما كان عليه قبل عشر سنوات”، كما جاء فيها أن”صافي الربح تجاوز 4,5 مليار درهم خلال نفس السنة”.
وقد أعلنت شركة “سنلام المغرب” في منتصف هذه السنة، أنها حققت صافي ربح بلغ 245 مليون درهم بنهاية يونيو 2024، مقارنة بـ 221 مليون درهم في نفس الفترة من العام الماضي.
وحسب تقارير ACAPS، هيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي فإن نشاط التأمين عن الحياة، والتأمين عن غير الحياة، يظهر أنه في نمو منذ عقد من الزمن، يرتفع وينخفض، لكن يظل أفضل مما كان عليه سابقا.
هجوم عابر للقارات على شركات التأمين
لا يقتصر هذا الموضوع على المغرب لوحده، وإنما نجده في جميع بلدان العالم. وضعت أمريكا دليلا للسائقين، يحمل جميع أنواع الحوادث المفتعلة وكيفية تجنبها. وحسب “اتحاد تأمين أوروبا” فإن تكلفة الاحتيال على شركات تأمين السيارات في أمريكا تفوق 11% من المبلغ الاجمالي للمطالبات بالتأمين. وتكلفة الاحتيال في اسبانيا تزيد من 13% من إجمالي المطالبات.
كما قدر مكتب جرائم التأمين القومي الأمريكي، الخسائر الناتجة عن الاحتيال بأكثر من 40 مليار دولار سنويا في أمريكا. وقدرت هيئة التعاون ضد الغش والاحتيال في التأمين، أن عمليات الاحتيال هذه، قد تصل إلى 100 مليار دولار سنويا.
وفي الأردن نشرت وكالة الأنباء الأردنية صباح يوم السبت 23 نوفمبر 2024، تحذير من طرف أمن الدولة بخصوص حوادث السير المفتعلة. وقد استقبلت المحاكم الأردنية خلال السنوات الخمس الأخيرة نحو 600 قضية لحوادث سير قام أصحابها بافتعال وقوع الحادث بحثا عن تعويضات مالية من شركات التأمين، وبعد سلسلة جلسات في المحاكم وصلت إلى 306 قضايا إلى الحكم بإدانة مفتعلي هذه الحوادث. الهند والبرازيل واليونان وفي مختلف الدول، تواجه شركات التأمين هذا النوع من الحوادث، وكأنه هجوم عابر للقارات ضدها.
هذه الأخيرة (شركات التأمين) تراكم ثروات كبيرة وهائلة على المستوى العالمي. غالبا ما يشعر المؤمّن له على أنها مُقتطعة من ماله وعرق جبينه. ربما الفقر أو العجز يدفع بالسائقين إلى سلك هذه الطرق للحصول على المال، فالانتقام من شركات التأمين هدف وارد في نفسية “المتحايلين”، وربما هناك عصابات منظمة لهاته الأغراض.
من المستفيد الأكبر من التأمين نفسه؟ ومن المتضرر الأكبر منه؟ أسئلة وأخرى تبقى مفتوحة، لما تحمله كل هاته التفاصيل من تناقضات.
بقلم: أيمن سلام