عبد الله العلوي يقتفي أثر ابن بطوطة في الصين من خلال إصداره الجديد

حسن البوهي
ما تزال رحلة ابن بطوطة “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” تمارس غوايتها على الباحثين والدارسين الذين إن لم تستهوهم معطياتها الوصفية تستفزهم مروياتها العجائبية، فتجنح بهم إلى محاولات فك طلاسيمها واكتناه مضامينها، ولعل عبد الله العلوي واحد من هؤلاء الكتاب والباحثين الذين لم يتوقفوا عند حدود تحليل المنطوق من هذه الرحلة، بل حاول سواء من خلال كتابه “ابن بطوطة في الهند والمالديف” أو “ابن بطوطة في سلطنة دلهي الإسلامية” أو “الإسلام والمسلمون في الهند” أن ينفذ إلى ما وراء الرحلة بكواليسها، لينازع ابن بطوطة في مروياته ومشاهداته، مُخضعا إياها للبحث والتدقيق والتحقيق، مقتفيا آثرها بين الشعاب والسهول.
وقد سبق للكاتب أن صدر له “السينما الهندية بوليود” بالعربية ترجمه إلى الانجليزية عبد الكبير العلواني وبسمة الهجامي، طُبع له أيضا “المنتحر والانتحاري”، “يوميات العمل الوطني المسلح في المغرب من خلال حوار مع المقاوم مولاي عبد السلام الجبلي”، ” جماعة مخالفة وجماعات مجدفة” ، وصدر له أيضا سنة 2023 كتاب أيقوني حول المدينة الحمراء تحت عنوان: “مراكش ألف حكاية وحكاية” وقد استقبل بحفاوة من طرف النقاذ والعديد من الباحثين المهتمين بالثقافة الشعبية.
ابن بطوطة في الصين..إضاءة عامة
في الأسابيع القليلة الماضية أطل علينا عبد الله العلوي بإصدار جديد تحت عنوان “ابن بطوطة في الصين” عن دار النشر “أكورا، وهو من القطع المتوسط يقع في 178 صفحة، تتصدر غلافه لوحة تعبيرية للرسام والخطاط العربي المسلم “يحي ابن محمود الواسطي” الذي عاش في القرن الثالث عشر 13 الميلادي.
الكتاب يُؤطر ضمن أدب الرحلة، تتخلله إلى جانب التوطئة والتمهيد 33 متتالية موضوعاتية تقارب جوانب متعددة من رحلة ابن بطوطة إلى الصين وهي تنتظم من خلال تيمات تقارب:
– معطيات وصفية لمحطات الرحلة وجغرافيتها معززة بخريطتين توضيحيتين
– معطيات حول مجموعة من الأعلام ك”مغاربة مكة” “أسماء الأباطرة” “كوبلاي خان” “جينكيزخان” “ترمشيين”.
– معطيات حول الحرف والصنائع كالخزف والطب والرسم،
– معطيات تكتسي بعدا عجائبيا في رحلة ابن بطوطة من قبيل ، “أكل بني أدم” “الشعوذة”
– إلى جانب معطيات أخرى لها ارتباط بالتصوف والممارسات التعبدية” والعقائدية ك”الزوايا الإسلامية” و”عقائد الصين”و “عبدة الشمس”
– بالإضافة إلى تيمات أخرى تميط اللثام عن سيناريوهات سياسية وعلاقات تجارية وديبلوماسية
وأفرد المؤلف في الثلث الأخير من الكتاب ملحقا للنص الأصلي لرحلة ابن بطوطة إلى الصين كما وردت في تلخيص ابن جزي كاتب السلطان أبي عنان المريني (1329-1358)
سبقت رحلة ابن بطوطة إلى الصين ثلاث رحلات عربية تُؤطر زمنيا في القرنين الثالث والرابع الهجريين، خاض غمار الأولى الرحالة أبي زيد السيرافي سنة 237هـ/851م، ثم تلاه ابن وهب القرشي بعد عام 270هـ/883م، فيما الرحلة الثالثة كانت لأبي دلف مسعر بن مهلهل سنة 331هـ/942م. وهناك شواهد أخرى تؤكد أن رحالة ومغامر مغربي يدعى “أبي البركات” كان هو الأخر من السباقين لهذا القطر الذي ضل عصيا لفترة من الزمن عن الرحالة والمغامرين، وتبقى رحلة ابن بطوطة واحدة من أهم – إن لم تكن على الإطلاق – أهم هذه الرحلات إلى جانب رحلة “ماركو بولو” اللتان أماطتا اللثام عن العديد من المعطيات الوصفية التي ضلت ملغزة وصاحبها الكثير من الجدل.
إضافة بحثية.. بخطى ميدانية
عديدة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت رحلة ابن بطوطة إلى الصين بالبحث والدراسة كالدراسة التي قام بها المرحوم عبد الهادي التازي وغيره من الباحثين، والجانب المميز في كتاب “عبد الله العلوي” والذي يجعله نوعيا ومتفردا أن الكاتب قام بإعادة تحقيق ما ورد في متن الرحلة، مُخضعا المعطيات الثاوية فيه للبحث والتمحيص والتدقيق، متوسلا لذلك منهجا تفكيكيا صارما ينطلق في العديد من المناسبات من الطرح النقيض المُتشكك في الرحلة، ليقوم بتفكيكه ثم إعادة تركيبه لينتهي في الأخير إلى دحضه.
كما توقف المؤلف عند أسماء بعض الأماكن وطبونيميتها وكذا أسماء الأعلام بلغتها الأصلية الصينية شارحا معانيها ومقاصدها، مقارنا إياها مع ما يقابلها في اللغة العربية، مستثمرا ما تراكم لديه من منطوق وملفوظ بعض المعاني والألفاظ الصينية، ولم يتوقف عبد الله العلوي عند ذلك بل خاض مغامرة تفسير بعض الوقائع التي التبست على ابن بطوطة على ضوء مجموعة من الشواهد والأحداث المثبتة تاريخيا مقدما بعض الفرضيات التي قد تكون وراء ذلك.
والجانب المميز في الرحلة كذلك ولم يفصح عنه الكاتب إلا بشكل عابر هو أنه سار على خطى ابن بطوطة وحاول توطين المناطق التي مر منها ووقف عليها بشكل مباشر، فتطلب منه الأمر العديد من الزيارات الميدانية على امتداد سنوات من البحث والتقصي والاستفسار.
وغني عن البيان فابن بطوطة هو “أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي عاش في الفترة الممتدة بين 1304 و1368 م الموافق ل 703- 779 هجرية هو رحالة ومؤرخ وقاض، رحلته الأيقونية الموسومة ب “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” هي واحدة من أهم الرحلات في التاريخ الإنساني والإسلامي على وجه الخصوص. استغرقت حوالي 27 ااا عاما خرج من طنجة سنة 725ه وعاد إليها سنة 752 ه الموافق ل (1325-1352م) توفي سنة 779ه/1377م قادته أسفاره إلى مصر والحبشة والشام والحجاز وتهامة ونجد زالعراق وبلاد فارس واليمن وعمان والبحرين وبالإضافة إلى الهند والصين وجزر المالديف وأواسط إفريقيا والأندلس.
ابن بطوطة.. “متغير الخاطر”
جاءت رحلة ابن بطوطة إلى الصين بطلب من سلطان الهند لكي يبعث قافلة ورسالة لإمبراطور الصين يعتذر له فيها على طلبه بشأن بناء معبد بوذي في الهند، وكانت هذه القافلة محملة بالهدايا ذت قيمة مالية واعتبارية ضخمة. تخللتها أحداث ووقائع مؤلمة.
أقام ابن بطوطة في الصين مدة 353 يوما بالتقويم الميلادي فقط ما بين سنتي 1345 و1346 م، علما أنه أقام في الهند حوالي تسع سنوات، وفي جزر المالديف حوالي ثلاث سنوات. وبالتالي كانت إقامته في الصين قصيرة مقارنة مع رحلته إلى بلاد الهند وجزر المالديف، ولعله لم يكن يستحسن الإقامة بها وكان “متغير الخاطر”، ورد ذلك بصريح العبارة في قوله “الصين لم تكن تعجبني، بل كان خاطري شديد التغير…” وكان لا يخرج من بيته إلا لماما لقضاء أغراضه وتدوين مشاهداته، الاستثناء الوحيد الذي آنس إليه ابن بطوطة هو تعرفه على بعض المسلمين الذين كانوا يتحدثون العربية والفارسية فالتفوا حوله واحتضنوه ووصف ذلك قائلا ” كنت إذا التقيت مسلما فكأنني التقيت أقاربي وعائلتي”
ابن خلدون ومُحقق رحلة “ماركو بولو” يُكذًبان ابن بطوطة
رحلات ابن بطوطة إلى الهند وجزر المالديف والصين، أسالت الكثير من المداد، وأثير حولها جدل كبير بين مشكك فيها ومؤيد لها، ف “هنري بول” مثلا محقق رحلة “ماركو بولو” زعم أن ابن بطوطة لم يزر الصين إطلاقا، لأن ما ورد في مشاهداته حول الصين لا ينطبق بحال من الأحوال على البلد آنذاك، وهذا التشكيك رافق ابن بطوطة بعد عودته لطنجة حيث اضطر إلى أداء القسم مرتين لتأكيد صحة روايته، وفي هذا السياق أشار ابن خلدون في كتابه “العبر وديوان المبتدأ والخبر.. إلى أن “الناس تناجوا بتكذيب ابن بطوطة..وأكثر النقد وجه لرحلاته في الهند والصين..”ولعل ذلك راجع إلى أن تلك المشاهدات تمتح من ثقافة مغايرة مختلفة بشكل كامل على ما اعتاده عموم الناس من عادات…وهو ما أفسح المجال لبعض المتقولين لتحميل ابن بطوطة وزر مرويات لم يروها أصلا، يقول عبد الله العلوي في الصفحة 10: ”
– المعروف أن رحلة ابن بطوطة كتبت في ثلاث مناسبات: الأولى ضاعت أو سرقت منه من طرف القراصنة في الصين، والثانية عندما عاد إلى طنجة وأعاد كتابة مشاهداته (ضاعت هي الأخرى) والنسخة الثالثة هي التي وصلتنا مختصرة من طرف ابن جزي (أبو عبد الله محمد ابن أبي القاسم 721-757ه) بأمر من السلطان المريني أبي عنان المريني (1358-1348) ومشاهدات ابن بطوطة حول الصين في رحلته، بالإضافة إلى بعض الإشارات الأخرى في سياق مقارنته بين عادات وتقاليد البلدان لا تتعدى 17 صفحة، مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الدوافع التي كانت وراء اختصاره لتقييد ابن بطوطة؟ وهل السلطان المريني أبي عنان هو من أمره بذلك؟
للأسف الشديد ضاع التقييد الأصلي لابن بطوطة بعد وفاة “ابن جزي” 1357م بسبب مرض ألمً به وهو في سن 36، ثم بعد سنة فقط (1358) توفي السلطان أبي عنان المريني هو الأخر مخنوقا من طرف أحد وزارئه، ليختفي بذلك تقييد ابن بطوطة إلى يومنا هذا.
التباسات مجانبة للصواب
على خلاف رحلته إلى بلاد الهند وجزر المالديف، يظهر أن ابن بطوطة قد اختلطت عليه بعض الأمور ذلك أن مشاهداته كانت مجانبة للصواب بعد مقارنتها بسياق الأحداث التي كانت سائدة ومثبتة آنذاك، منها مثلا مدينة صينية يوجد بها عدد كبير من الفيلة، وأمام كل بيت صيني يوجد مربط لفيل يستعين به أهل البيت في قضاء مآربهم، وهو ما نفاه بالجملة “هنري بول” غير أن عبد الله العلوي يرى أن “هنري بول” وقع لديه التباس في هذا الشأن، وأن الأمر يتعلق بميناء المدينة، مقدما فرضية مفادها أن ابن بطوطة كان يتحدث فقط عن تجار الميناء الذين يملكون الفيلة وليس عن سكان المدينة ككل، كما أننا لا نعرف الصياغة الأسلوبية الأصلية التي صاغ بها هذه المعلومة والتي وصلتنا عن طريق مختصر “ابن جزي” وليست عن طريق تقييده الأصلي الذي ضاع في ظروف غامضة كما أسلفنا.
ومن الالتباسات كذلك التي وقعت لابن بطوطة تلك التي أفردها لشيخ الإسلام ابن تيمية، إذ أشار أنه شاهد ابن تيمية على منبر الجامع بدمشق يعظ الناس ونزل من درجة المنبر وهو يقول “إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا..” وهو ما يتعارض مع المذهب العقدي لابن تيمية ويتناقض مع ما ثبت لديه من أفكار ومواقف لأنه لم يكن من المُجسّمة، كما أن وصول ابن تيمية إلى دمشق كان يوم الخميس التاسع من شهر رمضان عام726 ه في حين أن ابن تيمية سُجن بقلعة دمشق أوائل شعبان من العام نفسهن وبقي هناك إلى أن وافته المنية ليلة 22 ذي القعدة 728ه، بالإضافة إلى أن كل من ترجموا لابن تيمية لم يرد عليهم أنه كان يعظ على منبر الجمعة وإنما كان يكتفي بالجلوس على كرسي ويجتمع حوله جم غفير من الناس.
العجائبية في رحلة ابن بطوطة
قدم ابن بطوطة في رحلته إلى الصين معطيات جمة تجد مبرراتها في وصف نمط العيش في هذا القطر الذي لا يضاهيه إقليم من أقاليم الأرض من الخيرات والفواكه والذهب والفضة، يخترقه نهر عظيم يمر وسط الصين مسيرة ستة أشهر، تحف جنباته قرى مُخضرّة وبساتين وأسواق عامرة ونواعير كثيرة – يورد ابن بطوطة-. كما تحدث عن حجارة مُسرجة “أما الصين فيوقدون حجارة تُشعل فيها النار كما تشتعل في الفحم، ثم إذا صارت رمادا عجنوه بالماء وجففوه بالشمس وطبخوا به ثانية كذلك حتى يتلاشى…” (ص.39) ، كما وصف ابن بطوطة عشق السلطان “محمد أوزبك خان” لإحدى نسائه، لخاصية تختص بها جسديا، إذ تكون كالبكر في كل ليلة عندما يدخل بها، وقد سمع الرحالة أن هناك صنفا من النساء في الصين يملكن هذه الخاصية…” ، ثم أشار إلى طقوس الشعوذة، سيما تلك التي كانت ببلاط أحد الأمراء، مُعرجا على “الغدارين وديانتهم السرية..(ص.73)
وتوقف في سياق حديثه عن سد هاجوج ومأجوج ” عند آكلي لحم البشر، مستشهدا بآراء من صادفهم من التجار والمسافرين “فيما ذكر لي يسكنها كفار رحالة يأكلون بني أدم إذا ظفروا به…” ويرى عبد الله العلوي أن هذه الإشارة مجرد إشاعة ولا تؤكدها أي شواهد، اللهم إذا كانت حالة منفردة معزولة ولا تنطبق بحال من الأحوال على جماعة من الناس ترتضي لنفسها نمطا معيشيا مُشابها.
على سبيل الختم
استطاع عبد الله العلوي بفضل تخصصه البحثي في رحلة ابن بطوطة أن ينفذ إلى عمق ما تحبل به من معطيات وصفية، وأن ينتهي إلى مجموعة من النتائج المهمة والتي تتخذ في بعض الأحيان صيغة “فرضيات”، ومن شأن تعميق البحث في رحلة ابن بطوطة وغيرها من الأعمال العلمية والإبداعية الأخرى (الكلاسيكية منها أو الحديثة) أن تساهم في فهم أنساق نمط التفكير وخصوصية الذهنية الصينية التي أفرزت اليوم نظاما اقتصاديا، علميا، سياسيا واعدا ومتمددا، وذلك للأخذ بأسباب النجاح واقتفاء مسالك النماء والنمو، سيما بالنسبة لبلد كبلدنا المغرب الذي يتملمس طريقه نحو التحديث وينشد الدولة الحديثة.