بورتري

“دخول الحمام ماشي بحال فراقو” هل تُصبح الحمامات ذكرى من الماضي؟

رشيد سرحان

في مغربٍ تتأصل فيه الحمامات كمفاتيح لأبواب الراحة والسكينة، حيث لا يقتصر دورها على تنظيف الجسد فحسب، بل تُعتبر شرايين تواصلٍ تنبض بالحياة الاجتماعية وتعزز الروابط بين الأفراد.

 

لعدة قرون، كانت الحمامات واحاتٍ في صحراء الحياة اليومية، يُلجأ إليها لترويح النفس وتجديد الطاقات بعيداً عن صخب العالم. كانت الحمامات تُطفئ عطش الأجساد المتعبة في نهاية كل أسبوع، حيث يجتمع الناس لملء مخازن طاقتهم النفسية والجسمانية، استعداداً لجولة جديدة في معترك الحياة.

 

إلا أنه في السنوات الأخيرة، أخذت رياح التغيير تهب على هذه العادات، ومع بزوغ فجر التكنولوجيا وظهور الحمامات الخاصة في المنازل، بدأت الحمامات العامة تفقد بريقها تدريجياً. تزايدت المخاوف بشأن النظافة، كغيمة سوداء تخيّم على قلوب الناس، فابتعد الكثيرون عن الحمامات العامة، وفضلوا الاحتماء بمنازلهم. وعندما اجتاح فيروس كورونا العالم، تحوّلت المخاوف إلى عاصفة هوجاء أدت إلى إغلاق الحمامات العامة في مختلف أنحاء المغرب. هذا الإغلاق كان بمثابة سحابة صيف عابرة، لكنها خلّفت أثرًا كبيرًا على الاقتصاد المحلي والعادات اليومية للمواطنين.

 

تراث الحمام المغربي هو ككنز قديم محفوظ في صناديق من الطقوس والتقاليد، حيث يبدأ التدليك الناعم للصابون البلدي بملمسٍ كملمس الحرير، لتليها عملية حك الجلد، وكأن الجسد يتخلص من أثقال الماضي. ورغم أن البعض يفضلون القيام بهذه المهمة بأنفسهم، إلا أن حك الظهر يظل مهمة يتقاسمها الرفاق بروح تضامنية، وكأنهم ينسجون خيوط مودة جديدة بين بعضهم البعض. أما النساء، فيعتبرن الحمام مجمعاً يفرغن فيه همومهن، ويتبادلن فيه أسرار الحياة، وكأنه مجلس سري تتناقل فيه الأخبار والمشاعر.

 

من خلال هذه الطقوس المتوارثة، كان الحمام المغربي شجرةً عريقة جذورها مغروسة في أعماق التراث، وظلّ شامخاً عبر الزمن، ليصبح رمزاً للهوية والثقافة المغربية. لكن، بدأت هذه الشجرة تواجه رياح التغيير، حيث بدأت الحمامات في إغلاق أبوابها لعدة أيام في الأسبوع، كخطوة في رحلة مواجهة أزمة الجفاف التي تحاصر البلاد. هذا القرار لم يكن مجرد إغلاق للأبواب، بل كان كإطفاء شموع الأمل في قلوب العاملين في الحمامات، والذين تأثروا بشكل كبير بسبب هذا الإجراء. ومع إغلاق الحمامات، اضطر المواطنون للجوء إلى منازلهم للاستحمام، مما زاد من استهلاك المياه والطاقة، في تكرار لسيناريو جائحة كورونا.

 

وعليه، يظهر لنا أن الحمام التقليدي ليس مجرد مكان، بل هو قطعة من الروح المغربية، يتنفس من خلالها المجتمع أدواراً اجتماعية وثقافية. وعلى الرغم من التحديات التي تعصف به، يظل هناك من يتمسك بهذه الواحة القديمة كجزء لا يتجزأ من حياته.

 

لكن السؤال الذي يظل عالقاً في الأذهان: هل يمكن أن تصبح الحمامات ذكرى من الماضي؟

 

الإجابة على هذا السؤال كأوراق شجرة في مهب الريح، تعتمد على تطورات التكنولوجيا، وتغير العادات الاجتماعية، والمخاوف الصحية، إلى جانب العجز المائي الذي يكاد يضع البلاد في مواجهة مع واقع جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى