أركان..الشجرة التي أذهلت الجغرافيين القدامى وكبار المنتجين المعاصرين

بقلم: حسن البوهي
تعد شجرة الأركان واحدة من الأشجار النادرة في العالم، أفردت لها دراسات علمية وصناعية متخصصة، حيزا مهما من الاهتمام لإبراز خصائصها الايكولوجية الغذائية ومميزاتها العلاجية والتجميلية، تُعرف في أوساط العلماء النباتيين والمتخصصين ب Argania Spinosa تنتمي لصنف )الآبنوسيات )sapotacées من فصيلة )السبوتيات( وهي تنتشر بغرب الجزائر وجنوب إفريقيا ويتركز أكبر عدد منها بجنوب المغرب الذي يعتبر المصدر الرئيسي الأول في العالم للمستخلصات الخام للأركان.
وتشير بعض الدراسات أن شجرة أركان واحدة، تنتج سنويا ما بين 10 إلى 30 كيلوغرام، تمتد على مساحة تقدر ب 830 ألف هكتار بنسبة تقدر ب7% ، من المجال الغابوي بالمغرب، بإنتاج يتراوح بين 3000 إلى 4000 طن سنويا، أي ما مجموعه 21 مليون شجرة، على طول مجال يمتد بين مدينة الصويرة وسيدي إفني وسهول عبدة والشياظمة وحاحا وسوس وماسة وسفوح الأطلسين الكبير والصغير الغربيين وغرب بركان، وقد أثارت هذه الشجرة منذ مئات السنين اهتمام العديد من المستكشفين والجغرافيين العرب القدامى، الذين دونوا في كتاباتهم الوصفية معلومات مهمة حولها، وفي الفترة الحالية تجاوز صيتها الحدود الجهوية والاقليمية ليمتد للعالمية لاسيما بعدما قامت المنظمة العالمية للثقافة والعلوم المعروفة اختصارا باليونسكو بضم المجال الحيوي لشجر الأركان ضمن لائحة المحميات العالمية للتراث الطبيعي منذ دجنبر 1998.
نتعرف في هذا البورتريه عن صدى شجرة الأركان في الكتابات الجغرافية الوصفية في العصر الوسيط، وتفاصيل الطريقة التقليدية المُعتمدة في استخراج الزيوت المتعددة الفوائد التي تتهافت عليها كبريات المختبرات والمصانع العالمية.
شجرة الأركان في حضرة الجغرافيين العرب في العصر الوسيط
تحدث العديد من الجغرافيين العرب عن شجرة أركان بأسماء وصيغ متعددة وضمّنوا في كتاباتهم معطيات وإشارات حول خصائص هذه الشجرة ومزاياها واستعمالاتها وطريقة استخراج زيوتها، وفي هذا الإطار أشار الجغرافي أبو عبيد الله البكري الذي عاش في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي في وصفه لها “وبالسوس زيت الهرجان وشجره يشبه شجرة الكمثري غير أنه لا يفوت باليد، وأغصانه نابتة من أصله لا ساق له وهي شوكاء”.
وتحدث الجغرافي أبو عبد الله الزهري الذي عاش في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي عن شجرة الأركان باعتبارها واحدة من عجائب المغرب الأقصى، “ومن عجائب هذا الصقع زيت أرجان وهو إسم بلغة المصامدة، يقع على شجرة لا بالصغار ولا بالكبار”، وفي وصفه لثمار الأركان يضيف ” حب على قدر المشمش في صفته ولونه..كأنه النجوم في ظلال الليل، غير أنه لا لحم له ولا طيب، وإنما هي جلود رقاق على أنوية غلاظ وفي حديثه عن جبل درن أي الأطلس الكبير أشار الشريف الإدريسي إليها قائلا “وبهذا الجبل شجر كبير يسمى بالبربرية أرقان وهي تشبه شجر الإجاص أغصانا وفروعا وأوراقا..شبيه بثمر العيون في أول نباته، قشرته العليا رقيقة خضراء، فإذا تناهت اصفرت، لكنها في نهاية العفوصة والحموضة وداخله نوى شبيه بالزيتونة الممدودة الرأس، صلب ولا يطيب طعم هذا الثمر البتة”.
وأشار ابن البيطار في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي أن شجر الأركان يوجد بالمغرب الأقصى يتميز بكثرة أشواكه التي تحول دون الوصول إلى ثماره..صغير البلوط، أصفر اللون، من أحد جوانبه ثقب غير نافذ إلى داخله، وداخله أشبه بحب الصنوبر أما ليون الافريقي الحسن الوزان الذي عاصر القرن العاشر الهجري الموافق للقرن الرابع عشر الميلادي فقد عرّج في سياق حديثه عن بلاد حاحا مشيرا “يوجد هناك عدد وافر من أشجار شائكة تثمر حبا كبيرا يشبه الزيتون..ويسمى هذا الثمر عندهم بالهرجان”، وبنفس الوصف تقريبا أشار “مارمول كربخال” أن سكان حاحا يستخرجون الزيت الذي يستهلكونه من نواة بعض الثمار التي تحملها أشجار شائكة تسمى أركان.
طرق تقليدية.. صامدة في وجه شبح النسيان
أشار أبو عبيد الله البكري في سياق حديثه عن أهل سوس، أنهم يجنون ثمر الأركان وتعلف منه ماشيتهم، حيث يُجمع ويطحن ويطبخ ويستخرج منه الزيت الذي يوظفونه كثيرا ويستغنون به عن باقي الزيوت الأخرى لوفرته عندهم، وذكر الزهري الثمار مفصلا الحديث عن طريقة استخراج الأركان “إذا طابت سقطت في الأرض، فتجمع وتأكلها البهائم، فترمى أنويتها في معالفها، فتجمع تلك الأنوية وتكسر، وهي صلبة الكسر، فيخرج منها لوز على قدر أنوية مشمش، فيطشّش ذلك اللوز في المقلى على النار، ويطحن ويعصر، ويقطر منه زيت صاف رقيق الأجزاء..”
للتعرف حول ما إذا كان هناك فرق بين الطرق التقليدية، التي تحدثت عنها المصادر التاريخية والطرق الحالية، قصدنا مدينة الصويرة التي تتوزع بها مجموعة من المحلات التجارية لجمعيات وتعاونيات مهنية تقوم باستخراج زيت الأركان بشكل مباشر أمام الزبناء بطرق تقليدية.
وفي هذا الإطار تشير “أمينة نيت عمي”، سيدة في عقدها السادس تلقت أبجديات استخراج زيت الأركان في سن مبكر من فترة طفولتها على يد أمها وجدتها اللتان كانتا تعيلان الأسرة من مداخيل جني ثمار الأركان وعصره، قائلة “قبل أن نباشر عملية استخراج زيت الأركان هناك مجموعة من المراحل التمهيدية الأولى، التي تبدأ بجني الثمار ذات اللون الأخضر من أغصان الأشجار، فيتم تجميع المحصول وتجفيفه على مراحل إلى أن يتحول لونه من الأخضر إلى اللون البني الداكن أو الأسود.
وهناك من يترك الثمار في الأشجار إلى أن يصبح لونها بنيا داكنا فتتساقط من تلقاء نفسها أو ثم يقوم بجنيها، ويُشرع بعد ذلك في تكسير القشرة الخارجية والتي عادة ما تكون صلبة ويستخرج منها نوى يسمى “تيزين”، فتُجلب أنوية الثمار إلى المحل ويتم تحميصها وطحنها يدويا باستعمال رحى تقليدية حجرية الصنع، فينتج عن ذلك خليط معجون بعناية يطلق عليه إسم “زكمونة”، ثم يضاف إليه محلول مائي ساخن ممزوج بمادة الملح حتى يمكن استخراج عينة خالصة من زيت الأركان غير مختلطة بباقي مكونات العجين، وهي تتميز برائحة زكية خاصة.
هذا فيما يخص استخراج زيت الأركان الموجهة للّأكل، أما الزيت الثانية الموجهة للإستعمالات التجميلية والتي تتفرع عنها ما بين أربعة إلى خمسة أنواع فلا تخضع للتحميص وتمر من نفس المراحل التي مرت منها سابقتها وتسفر عن محلول زيتي يميل إلى اللون الأصفر بدون رائحة أو مذاق مميزين..” وتضيف “أمينة نيت عمي” كل مكونات ثمار الأركان يتم استغلالها ولا ترمى منها أي مكونات فقشور ثمار الأركان يتم تقديمها للأغنام كعلف، فيما “زكمونة” التي هي عبارة عن عجين خام فتستخدم للتدفئة وتقوم مقام الأخشاب في الموقد، وغالبا ما يتم تجميعها وبيعها لمصانع متخصصة بمدينة الدار البيضاء التي تقوم بإعادة تدويرها وتستخلص منها مشتقات الأركان وهي عبارة عن قطع من الصابون الطبيعي ومراهم ومساحيق تجميل للوجه لإزالة خلاياه الميتة..”
نتيجة للإقبال المتزايد على زيت الأركان ومشتقاته، انتظمت العديد من النساء اللواتي يشتغلن في هذا المجال، في إطار تعاونيات تربطها علاقات تعاقدية مع مجموعة من المصانع داخل المغرب وخارجه، من بينها تعاونية “فلوراتيس”، التي استطاعت أن تجتذب إليها عينة مهمة من الصانعات التقليديات، اللواتي أصبحن يشكلن قاعدة إنتاجية تتهافت للتعامل معها العديد من المصانع المتخصصة في إنتاج مستخلصات التجميل الطبيعية.
في هذا الإطار تشير مليكة المنخرطة بهذه التعاونية أنها تقوم بتصدير زيت الأركان ذو الاستعمالات التجميلية بالإضافة إلى كميات مهمة من “زكمونة” إلى مصنع متخصص بمدينة الدار البيضاء، حيث يقوم بإعادة تكرير استعمال هذه الأخيرة التي تستخرج منها مشتقات متعددة من المساحيق والمراهم، فيُعاد بيعها للتعاونية من جديد بأثمنة تفضيلية في إطار اتفاقية شراكة تسهر عليها الدولة منضوية تحت لواء المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتقوم التعاونية بدورها ببيعها في السوق الداخلي لزبنائها المغاربة والأجانب الذين يُقبلون عليها بشكل كبير، وتواجه الصناعات التقليديات لزيت الأركان في السنوات الأخيرة تحديات فرضتها مستجدات العصر التقنية نتيجة ظهور المكننة التي تساهم يوما بعد أخر في تسريع وثيرة الاستغناء عن طرق الانتاج التقليدي..فهل ستصمد التقينات التقليدية في وجه المكننة كما صمدت مئات السنين منذ العصر الوسيط؟
فوائد الأركان…بين إشادة الكتابات التاريخية وتزكية الأبحاث المعاصرة
تحدثت العديد من المصادر العربية، عن الاستعمالات المتعددة لزيت الأركان وفوائده الغذائية والتجميلية، فقد وصفه أبو عبيد الله البكري بأنه زيت جيد محمود الغذاء، وأشار إليه ابن خلدون ب”زيت شريف طيب اللون والرائحة والطعم…”وأشار الشريف الإدريسي في نزهة مشتاقه”وهذا الزيت كثير جدا معروف ببلاد المغرب الأقصى، ولكثرته يسرجون به قناديلهم، ويقلي به الدخانيون الاسفنج في الأسواق، وله إذا مسته النار رائحة كريهة حريفة، ولكنه يعذُب طعامه في الإسفنج…” وفي الاستعمالات التجميلية أشار الادريسي إلى أن “نساء المصامدة يدهن رؤوسهن به على المشط فتحسُن شعورهن بذلك وتطول ولا تتكسر، ويمسك الشعر على لونه من السواد..”
عندما نعيد استقراء مضمون هذه الشهادات التاريخية على ضوء الدراسات الحديثة نجد العديد من نقط التقاطع مع تفاصيل ونتائج مخبرية مستفيضة، فهذه الموسوعة الحرة تخبرنا مثلا أن زيت الأركان يحتوي على 42.8% من حمض الأولييك،36.8% من حمض اللينولييك، 6.0% من حمض الستيياريك، 12.0% من حمض البالميتيك وأقل 0.5% من حمض اللينولينيك، وهي من أهم الحموض الدهنية الأساسية الأوميغا 6 والأوميغا 9 (Essential fatty acid) وبالإضافة إلى هذه الأحماض الدهنية الأساسية فإنه يحتوي على “التوكوفيرول” وهو الشكل الفعال لفيتامين Vitamin E، “السكوالين“، “الستيرويدات“، “الكاروتين“ و”الفينولات“.
ساهمت النتائج المخبرية التي كشفت عنها الأبحاث والدراسات العلمية والصناعية في انتشار صيت شجرة الأركان، وحاولت العديد من الدول استنباتها في مجالاتها الترابية إلا أن النتائج كانت عكسية ولم تُسفر عن ما كان يُنتظر منها، وذلك لأسباب مناخية لا تتلاءم مع المناخ المتوسطي الذي تنمو فيه هذه الشجرة، ولأسباب أخرى مرتبطة بطبيعة التربة ومكوناتها العضوية، وتعكف بعض مكاتب الدراسات في الفترة الحالية على صياغة مشاريع مقترحات لإعادة استنبات هذه الشجرة في مجالات صناعية شبيهة إلى حد ما بموطنها الأصلي، ولا شك أن الأيام المقبلة ستكشف لنا نجاح هذه المقترحات من عدمها وما مدى مساهمتها في تكسير احتكار إنتاج البيئة المغربية لهذه الشجرة “العجيبة”.