بورتريموجز الثقافة والفن

المجموعة الأمازيغية إزنزارن: رصاصة موسيقية في سنوات الجمر

عادل أيت واعزيز:

مجموعة غنائية أمازيغية تختصر قلق جيل بأكمله، وإزنزارن التي تعني أشعة الشمس، تسدل خيوطها لتكشف لنا عن: الفقر، الاستبداد، حقوق الإنسان، الهوية، الأم المغربية، الشعوب، الحرية.. كل هذه التيمات غنت عنها المجموعة خلال سنوات الجمر والرصاص في السبعينيات من القرن الماضي إلى حدود بدايات القرن العشرين، وجعلتها موضوعها الفني.

البدايات المنقسمة

تنتهي أول تجربة موسيقية مع مجموعة “لاقدام” سنة 1975، والتي انطلق منها كل شيء، لتبدأ نوستالجيا أشعة “إزنزارن” التي امتدت لها روح الأولى في مدينة أكادير، بقيادة عبد الهادي إكوت، وضمت المجموعة كل من: عبد الله اوبلعيد، مولاي ابراهيم الطالبي، محمد حنفي، حسن بيري ثم مصطفى الشاطر الذي التحق بالركب عام 1978. هذا بعد ان انقسمت المجموعة وظهرت مجموعة أخرى هي “إزنزارن الشامخ”، مع عبد العزيز الشامخ وحسن بوفرتال.

حدث هذا الانشقاق بعد اختلاف المجموعة على نوعية الموسيقى التي سيقدمونها. مجموعة عبد الهادي كانت واقعية أكثر بملامستها الواقع المعيشي وهموم الشعب المغربي، أما مجموعة الشامخ فكانت مثالية ترى غاية الفن في التنشيط والترفيه، لكنها استطاعت أن تشق لنفسها مسارا فنيا خاصا، لايقل وزنا عن مجموعة عبد الهادي.

عبد الهادي إكوت: المايسترو المنفلت

لا تفارقه قبعة البيريت، ولايمكن أن يظهر بدون ارتدائها، وقبل أن تكون مجرد قبعة فلاحية بسيطة، تحولت لتعبير سياسي على مر السنين. وهكذا أصبحت مجموعة إزنزارن عبد الهادي تحدث قطيعة مع التراث الفني السابق لها، وثورة فنية على مستوى الشكل والمضمون.

فالعازف عبد الهادي إكوت على غرار حنجرته التي تنصب كمينا آسراً من الإيقاعات التي تستحوذ على الذهن، يحاور آلة البانجو وتحاوره، يُرَوضها فتسلم له أوتارها، لتصدر نقرات رنانة قوية تتفق مع القصيدة الغنائية.  يسافر فيها المستمع عبر المقامات المتنوعة في متوالية موسيقية، من مقام الراست إلى مقام البياتي نحو مقامات أخرى.

وقبل أن يقود العصامي والبوهيمي عبد الهادي إگوت، ظاهرة إزنزارن، تعلم خلال يفاعه الأول مع جوقة غنائية بالدشيرة في مدينة أكادير عرفت بالنهضة السوسية، وإكوت تعني الكثير أوالعديد باللغة العربية.

وتزامن النشاط الفني لإزنزارن مع مجموعات أخرى من نفس جنسها، كالظاهرة الغيوانية، يتقاسمون معا جدة الظهور وظروف النشأة: جيل الجيلالة، ناس الغيوان، لمشاهب… حيث كانوا قريبين لبعضهم البعض، ينتجون فنا موسيقيا يخرج من الشعب ويعود إليه.

وخلال تواصلنا مع أحد أعمدة  وأعضاء مجموعة إزنزارن، بخصوص عبد الهادي صرح حسن بيري لموقع موجز24، ”إنه فنان من الصعب أن يتكرر، بالرغم مما تعرض له من مضايقات وهجوم كلامي، إلا أنه ثابث لا يأبه بهكذا أشياء صغيرة وجانبية، هذا الشخص قدم الكثير للفن المغربي الأمازيغي وأوصله للعالمية، حتى لو أن ثقافة الاعتراف منعدمة في وسطنا، هو إنسان عاشق للفن والحياة كما أنه رغم الإغراءات لايأبه بحفلات ”القصاير”، فهو يحترم نفسه ويحترم خصوصية ما يقوم به ويقدمه، في هذه الآونة الأخيرة، تغير كثيرا وأصبح إنسانا آخر ونحن كأصدقائه سعداء بذلك، ونفكر حاليا ونتواصل بيننا وبين أعضاء المجموعة في العودة للساحة الفنية”.

كلمات رصاصية

في زمن صمت فيه الكثيرون، استعملت إزنزارن كلماتها كما لم تستعمل من قبل، ومنحتها حياة جديدة؛ حياة الحرية والإنسانية. وجعلت من الموسيقى المغربية كائنا جديدا يمشي، يدير وجهه نحو الآخر والعصر والحياة، أكثر مما يدير وجهه نحو الماضي والتقليد. كانت إزنزارن تعتمد البحر ملاذا لإلهامها، وانطلاقة لكلماتها وألحانها، في بحر تاغزوت وسيدي الرباط وتيفنيت. وكان محمد الحنفي الشاعر الذي شغل باله الإنسان والأرض،  وظل يلاحقهما دوما عبر الفن، ساهم بقسط وفير في بناء المجموعة، من التأسيس إلى الكتابة، وهو صاحب مجموعة دواوين شعرية في الأمازيغية وتازنزارت، وأحد هذه الدواوين: أساي..  وألف فنا بتركيبة نصية متعددة وجامحة، يمنح مكانة خاصة للمتلقي المتعدد.

فحملت أعمال المجموعة مواضيع وعنواين من قبيل؛ ” إمي حنا، الطبلة، كيغ كيغ، أنمال، تيخيرا، إزليض، ألكماض، واد إتمودون، نتغي، تيدوكلا، أجديك، تمارة، تيفاوت، أطان، تكنداوت، أكال… وغيرها من الأغاني الملحمية التي تحمل هموم المغاربة وعلاقتهم بذواتهم، ويكشف جزء كبير منها عن تحول المجموعة من الغناء العاطفي إلى الواقعي، خصوصا مع أغنية تيخيرا التي تعني النهاية، تبدأ فيه المجموعة بالتطرق للسياسة وعلاقتها بالسلطة والهوة الساحقة بين الفوارق الطبقية، إلى جانب معاناة المغاربة مع الجفاف والقحط خلال الفترات الماضية.  كلها أغان شعرية بكينونة أمازيغية واقعية، متحركة، متحولة ومتجددة دائما، يمكن سماعها في أي زمان ومكان.

ويضيف لنا حسن بيري :” إزنزارن كانت مجموعة استثنائية وسط المشهد الفني، لم نكن نقوم بالموسيقى من أجل المال أو نيل الحظوة، بل من أجل من الفن لذاته، على مرور هذه السنين التي مرت إلى الآن، مازال يتم تقديم تأويلات مغلوطة وتفسر كلمات إزنزارن في غير محلها، بالرغم من معناها العميق وغير الواضح”، ويسترسل في كلامه: ”كما ينسب لنا الغناء على مجموعة من الشخصيات المغربية، لكن الأمر هو فقط أن الأغاني تزامنت مع أحداث سياسية واجتماعية، وصار العديد من الأشخاص يفسرون الأغاني حسب أهوائهم، ويقدم لنا حسن بيري مثال أغنية “ألكماض” أي الأفعى، التي نفى على أنها كانت تتحدث عن الجنرال الدليمي، وأضاف أن أصحاب كلمات هذه الأغنية هما علي شوهاد وبن زيدا”.

حدود الأشعة

بالرغم من أن المجموعة كانت تعاني ظروفا مادية خانقة، لم تكن تعير اكثراتا بالشهرة ولا بالمال، ولم تؤمن أن مكانها في حفلات الأعراس. وواصلت توصيف واقع سياسي محبط،  تتوالى عليه الخيبات والانتكاسات، وصار إشعاعها الثقافي ممتدا أكثر، بغض النظر عن التعتيم الإعلامي الذي كان مع وزير الداخلية إدريس البصري.  ظل شعر المجموعة غامزة كلامية وانهماكا لغويا مستديما، وغاية فنية جعلوه الشوط الأخير الذي يصلون إليه، وحين يتأمل المتلقي قاعدته الجماهيرية، يجد فعلا أن المجموعة نجحت إلى حد في إيصال صوت الحقيقة للناس. وبين آلة البانجو وشقيقاتها من الآلات الموسيقية؛ البندير، الدربوكة، الهجهوج ثم الكمان تندلع رغبة الكلام في البوح والتنديد، وسط مناخ سائد أقل ما يمكن قوله عليه أنه متوجس. لكن المجموعة بدأت تظهر أكثر في العقد الأخير، في مهرجانات وطنية ودولية، كموازين وتيمتار وباريس بمسرح الأولمبيا سنة 1977، رفقة  الفنانين إديرولمشاهب وجمال علام وآخرون.

أسرار إزنزارن

لايمكن فصل تازنزارت عن زمانها، لكن زمانها يمتد ليعانق النزعة الإنسانية التي تحضر في مجموعة من المقاطع، التي يصعب الإمساك بمعناها. حملت المجموعة على عاتقها وآلاتها قضايا الشعوب المظلومة، التي تقبع تحت وطأة ورحمة أنظمتها، هي تفكير في مصير الإنسان، باستعارات وتشبيهات غنائية وعزف متماسك، لايتطاول عليه الزمان ولايتقادم، وبكل عفوية أمازيغية إنسانية تعزف إزنزارن وتتكلم، واستطاعت إزنزارن أن تقدم في كل أغانيها وحدة للموضوع الفني، يدور أساسا حول مشكلات حرية الانسان وعلاقة الفرد بالسلطة والوجود ومعنى الحياة. ويبقى جانب آخر من المجموعة، ربما هو الذي أعطى للمجموعة استمراريتها وتجددها وحضورها بالرغم من توقف إصدارتها، هو حساسية أعضاء المجموعة كفنانين، ألهموا جيلا بأكمله، وكان لهم سحر مخاطبة الوجدان في المجتمع. وعن السبب الذي جعل إزنزارن تتوقف عن الإصدار، يحكي لنا حسن بيري عن مجموعة من الإكراهات وتغير ظروف إنتاج الموسيقى بين الماضي والحاضر، يقول حسن بيري : “من غير المعقول أن نرى اليوم أغنية في 3 دقائق، لا نستطيع أن نستوعب هذا الأمر”، في حين يضيف قائلا: “إزنزارن كانت تصدر أربعة أغاني تتراوح كلها في ساعة واحدة أو أكثر، حتى عبد الهادي إكوت لايستوعب الأمر، وهو الذي يمضي 7 دقائق فقط في تقسيم البانجو. هذه من بين المشاكل التي يعاني منها الجسد الموسيقي اليوم.

في البلاط الملكي بالرباط

ليس من السهل أن يشاركك ملك البلاد في العزف، إلا إذا آسره الإيقاع، هذا ما فعله الملك الراحل الحسن الثاني، سنة 1981، حين نظم حفلا فنيا في بلاطه بمدينة الرباط، اجتمع فيه أساطير الغناء المغربي كناس الغيوان ونعيمة سميح وآخرون كثيرون من بينهم مجموعة إزنزارن، التي سحرت الحضور ببساطتها الإستعارية وأصالة لغتها. وأكد لنا حسن بيري هذه الواقعة، قائلا:” زرنا القصر الملكي ثلاث مرات، بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني، وخصص لنا طائرة خاصة استقلناها من أكادير إلى الرباط، يضيف حسن بيري: ”لقد قدرنا المرحوم فعلا، سواء من ناحية الاستقبال أو في وسط أجواء الحفل الموسيقي، لقد أجلسنا بالقرب منه ومن الجنرالات والوزراء، على غرار الفنانين الآخرين، كان الحسن الثاني ينسق بين الجوق والفنانين في العرض الذي سيقدمونه، وكان الإيقاع الهواري والسوسي يلهمه كثيرا، فظل يبحث عمن يعزفه، وكنا الوحدين حينئذ الذين استطاعوا أن يعزفوه،”. كان الوقت المخصص لكل مجموعة 5دقائق، وبعد أن بدأت إزنزارن بالعزف، امتدت مدة العزف لساعة كاملة بأمر من الملك الذي لم يتردد بدوره في مشاركة المجموعة في العزف على البندير والناقوس. وصاح الحسن الثاني مبديا إعجابه بالمجموعة:” ها الإيقاعات لي خصنا، المغرب راه غني، خصكم غير تقلبوا وتجتهدوا.”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى